القائمة الرئيسية

الصفحات

ناطحات السحاب الحجرية: مقاربة أنثروبولوجية للمدبنة التقليدية

أنثروبولوجيا ناطحات السحاب الحجرية،  يُعدُّ الفن المعماري في يافع تجسيدًا حسيًا لارتباط الإنسان بالمكان، وانعكاسًا للثقافة المحلية التي تشكّلت عبر قرون طويلة من التفاعل مع الجغرافيا القاسية والبيئة الجبلية. فالفن لا يبدأ من الجسد، بل من البيت، ومن هنا تُعدُّ العمارة أولى الفنون، إذ إنها تنقل الأحاسيس عبر الحجر كما تنقلها الكلمات في اللغة.

وقد كتب د. قاسم المحبشي – اليمن في هذا الموضوع في موقع أرنتروبوس الذي تم نقل المقال منه مع بعض الشروحات والتعلقيات

ناطحات السحاب الحجرية: مقاربة أنثروبولوجية للمدبنة التقليدية


إثنوغرافيا مدينة يافع

الزائر ليافع يلحظ على الفور تميز العمارة المحلية بخصائصها الفريدة، حيث تنبثق المباني من الأرض كامتداد طبيعي للجبل، بل وتسمو كناطحات سحاب حجرية. ووفقًا للباحثة العراقية-البريطانية التي درست العمارة اليافعية منذ 1995 ونشرت نتائج دراساتها في صحيفة "الحياة اللندنية"، فإن يافع تمثل نموذجًا فريدًا في فنون البناء الحجري، لا نظير له في العالم.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم مقاربة أنثروبولوجية أولية لفهم العمارة اليافعية بوصفها نسقًا ثقافيًا متكاملًا يجمع بين الوظيفة والدلالة، ويعكس العلاقة المعقدة بين الإنسان والبيئة والقيم الثقافية.

أنثروبولوجيا العمارة في يافع

العمارة في يافع ليست محض نشاط بنائي بل تعبير عن الاندماج العضوي مع الجغرافيا. ففي بيئة جبلية قاسية، فقيرة بالماء والتربة، تتشكل بيوت من الحجر الصلد والطين والخشب المحلي، لترسخ في الجبل كما لو كانت جزءًا منه. ويُشبه البيت اليافعي القلعة، ما يعكس ثقافة الحذر والتهيؤ للصراع، التي كانت سائدة في الماضي.

تاريخيًا، يبدو أن السكن في قمم الجبال كان خيارًا أمنيًا أكثر من كونه ضرورة معمارية. آثار الحصون والمباني القديمة فوق القمم تشهد على هذا التوجه. أما الكهوف، الشائعة في حضارات جبلية أخرى، فقلما تُستخدم في يافع كمساكن. التحول من السكن في القمم إلى سفوح الجبال والهضاب يعكس تحولات ثقافية-اجتماعية بعد استقرار الأوضاع السياسية منذ الاستقلال عام 1967.

طقوس بناء العمارة

لكل بناء طقوسه، ولبناء المنزل في يافع طقوس دقيقة تبدأ باختيار "العرصة"، أي موقع البناء. لا يُقبل على البناء دون مشورة خبير يُعرف بـ"المعرّص"، يُفحص المكان فلكيًا وروحيًا للتأكد من خلوه من "الشرور". تذبح "فدية" قبل بدء البناء، وتُحدد المساحة وفقًا لوحدة الذراع. تتطلب الأساسات بناءً متينًا يُغرس في "الجيد الصلب"، ما يدل على ثقافة تؤمن بأهمية الثبات.

مهنة البناء موروثة وتُمارس من قبل فئة تُعرف بـ"أهل بن صلاح"، وهم صناع مهرة يحتكرون هذا الفن، ويُعدّ اسمهم علامة جودة.




تتنوع الأشكال الهندسية للبيوت اليافعية بين الأسطواني والمستطيل والمدرج، لكن الشكل المدرج يهيمن حاليًا. وتتّسم هذه البيوت بتشابهها الكبير من حيث الشكل وتقسيم الطوابق والنوافذ، ما يعكس نسقًا جماعيًا متجانسًا في الذوق والوظيفة.

الميتافيزيقيا المعمارية ليافع تكشف عن طبقات من الوعي الجمعي. فالبيوت القليلة النوافذ، الضيقة المداخل، المنخفضة الأسقف، تعكس ثقافة الخوف والانغلاق والحذر. أما العمارة الحديثة، التي تتسم بالعلو واتساع النوافذ والغرف، فتعكس تحولات نحو الحرية والانفتاح والطموح.

كما يذهب ميشيل فوكو، فإن العمارة ليست أشكالًا حجرية فحسب، بل هي أنظمة حسية تُترجم أحاسيس الناس، رؤاهم، علاقتهم بذواتهم وبالآخر. وبهذا المعنى، فإن البيت في يافع ليس فقط مأوى، بل خطاب بصري يحكي قصة الجماعة وتاريخها ومزاجها الثقافي.

غير أن الاضطرابات القبلية، كما في حالة منطقة الحد مؤخرًا، تؤثر سلبًا على هذا التوجه نحو الانفتاح، فتُغلق النوافذ، ويُعاد تشكيل البيوت بما يتلاءم مع أنماط الحذر القبلي.

في العمارة التقليدية، كل عنصر وظيفي: من المدخل (مردم العتبة) إلى المنظرة، وكل طابق يؤدي وظيفة محددة. وكانت الحجارة والخشب تُشكّل زخارف فنية ونحتية جميلة. أما اليوم، فقد دخلت مواد جديدة، وأصبح المنزل اليافعي في كثير من الأحيان لا يختلف في داخله عن المنازل العربية الحديثة، رغم احتفاظه بالشكل الخارجي التقليدي.

يمثّل فن العمارة في يافع وثيقة ثقافية تُعبّر عن التوازن بين الثبات والتغيير، بين الحلم والواقع، بين الجبل والسماء. إنه ليس فقط فعل بناء، بل ممارسة اجتماعية وطقوسية وجمالية، تستحق مزيدًا من البحث والتحليل في سياقاتها الأنثروبولوجية.

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع