أنثروبولوجيا الصورة: لماذا يجب استخدام الصورة في الدراسات الأنثروبولوجية
مع تزايد الدراسات الأنثروبولوجية وتنوع مواضيعها التي يتناولها
الأنثروبولوجيون كان لزاما عليهم أن يعملوا على تطوير المناهج الانثروبولوجية
وتقنياتها المعتمدة في جمع البيانات وتحليلها، لأن معايشة المبحوث وتدوين
الملاحظات لم يعد يفي بالغرض. إذ يجد الباحثون أنفسهم إما أما معضلة التقصير في
جمع البيانات لعدم قدرتهم على الإحاطة بكل ما يجري من أحداث وممارسات في مجتمع
البحث، وعلى وجه الخصوص في المجتمعات الأكثر تعقيدا. والمعضلة الثانية تتمثل في
النسيان، إذ مهما حاول الباحث أن يدون ملاحظاته في وقتها أو بعد خروجه من الميدان
مباشرة إلا أنه لا مناص من نسيان بعض الأحداث والصور والتي قد يستغني عنها في
عملية التحليل رغم أهميتها والاضافة المعرفية التي قد تضيفها للبحث، خاصة إن كانت
تلك الأحداث دورية ولا تعقد إلا مرة في الموسم ما يضيع على الباحث جهد عام كامل من
انتظار تلك الممارسة وفي الأخير لا يستغلها بالشكل الكافي.
المعضلة الثالثة تتمثل في التشتت الذي قد يصيب الباحث نتيجة تركيزه
على حدث معين أو تفاصيل معينة دون غيرها، حيث يقصي بقية التفاصيل التي قد راها في
تلك اللحظة غير مهمة أو لا دخل لها في نشوء أو سير ذلك الحدث أو الممارسة. ولتجنب
هذا الإهمال المنهجي تأتي الصورة كأداة مساعدة لحل هذه المعضلات ودعم ملاحظات
الباحث وتحليلاته. إلى أن أصبحت الصورة مع الوقت موضوعا أنثروبولوجيا يسعى من
خلالها الأنثروبولوجيون لاستقرائها وكشف مضامينها ودلالاتها، مع العلم أن مفهوم
الصورة في الأنثروبولوجيا هو مفهوم دينامي لا يكتفي بالنظر للصورة من منظور
فوتوغرافي فقط بل قد تمثل الممارسة في حد ذاتها صورة وموضوع بحث تدرس على هذا
الأساس.
ويمكن معرفة أهمية الصورة من خلال ما قدمه د. علاء جواد كاظم في كتابه "الصورة حكاية أنثروبولوجية: معاينات مونوغرافية في الانثروبولوجيا المرئية". وهو ما نورده في المقال أدناه نقلا من كتابه .ن
أولا: الأهمية الإنثروبولوجية للصورة
يعد التصوير الإثنوغرافي واحداً من أهم الأدوات والوسائل المنهجية
التي اعتمد عليها الباحثون الانثروبولوجيون في توثيق ملاحظاتهم الميدانية أو لتأكيد الوصف الذي يقدمه الإنثروبولوجي للواقع الذي
يدرسه(1). ويظهر الاطلاع على التراث النظري لعلم الانثروبولوجيا أن بدء استخدام التصوير الفوتوغرافي كأداة ميدانية قد استند إلى
قناعة لدى معظم العاملين في الإنثروبولوجيا مفاده: إن الصورة الفوتوغرافية يمكن أن تحل محل أو تكمل التدوين الكتابي الذي يهدف الى وصف
ما تدرسه وهو ما لاحظته العالمة مارغريت ميد (Margaret Mead) بقولها: «إن التغيرات التكنولوجية التي أدت
الى اختراع الكاميرا قد ساعدت الانثروبولوجي على الاعتماد على الأدوات التي تجعله يسجل ما هو موجود في الواقع الذي يدرسه من دون الاعتماد
على ذاكرته فحسب»(2)، خاصة أن هنالك الكثير من جوانب الواقع الميداني التي لا يمكن ويتعذر معها الوصف بالكلمة واللغة، لأن
مهما بلغ الكاتب من دقة في الملاحظة وبلاغة الوصف فإنه لا يمكن أن ينقل صورة كاملة بغير الصورة الفوتوغرافية. وسنحدد مجموعة من النقاط التي توضح بعضا من الدلالات الإنثروبولوجية للصورة:
ثانيا: الصورة تعيد إنتاج الواقع تعد الصورة الفوتوغرافية من أكثر الوسائل شفافية ومباشرة في الاقتراب
من الواقع، خاصة في هذه الفترة التي تحرّرت فيها من التركيز على أهمية جماليات الصورة الى التركيز على أهمية جماليات الواقع أو حتى خصائصه المؤلمة أو المنفرة ، مما جعل من الكاميرا هي الوسيط الجماهيري (3) الذي باتت معه أداة خطيرة وماكنة هائلة لتحريك الجماعات عبر ما تبثه وسائل الإعلام. وإذا كان بوسعنا اليوم الحديث عن رأي عام عالمي فالفضل يعود للصورة وانتشارها المذهل) ، فقد ساهمت الصورة (الثابتة والمتحركة على حد سواء في خلق ضرب من الرأي العام العالمي، وهو ما أوجزه الدكتور الغذامي) في وصفه بإيجاز شديد: «الصورة تخيف لأنها تفضح وتكشف»(2). أما سوزان سونتاغ في كتابها (التصوير الفوتوغرافي) قالت إن الأخير قد أصبح من أهم الوسائل للوصول إلى قلوب البشر. فالصورة تعطي المرء الانطباع بأنه يشارك في هذه الخبرة العاطفية. وضربت مثلاً بصورة طفلة فيتنامية عارية، تركض، بعد أن طاولها رذاذ قنابل النابالم خلال غارة أميركية على الطريق. تركض باتجاه آلة التصوير ، كأنما تستنجد بها. وهذه الصورة تمكنت، كما ينقل الكاتب (ابراهيم العريس)، عن سونتاغ، من أن تغذي عداء العالم كله إزاء الحرب، أكثر مما كان يمكن أن تفعله مئات الساعات من الأخبار. استعادت سونتاغ بقولها إن تصوير شيء، معناه أننا نشاركه أو نتملكه ونستحوذ عليه. أصل العلاقة السحرية التي ربطت الصورة بصاحبها. والصورة على هذا، تتجاوز إعادة إنتاج طبق الأصل لكائن أو شيء، عبر الرسم أو النحت أو التصوير الفوتوغرافي أو السينمائي، إلى شيء مستقل بذاته.
ثالثا: الصورة آلة لإنتاج التأويل وتغيير للذهن المتلقي:
لا تكمن بلاغة الصورة في قدرتها على إنتاج سيل لا متناه من
التأويلات والتعبيرات الرمزية في ذهن المتلقي وحسب، بل إن لها قوة تتجاوز حجم
قوة الأفكار، كما أن سلطتها تكمن في إنتاج الآثار وقدرتها على تغيير سلوك ما،
فكما أن ثمة كلمات تجرح وتقتل وتحمّس وتخفّف عن النفس.. إلخ، كذلك ثمة صور تثير
الغثيان والقشعريرة وتسيل اللعاب وتسهم في انتخاب مرشح من دون آخر ..
إلخ،(3). وعندما نقدم صورة تدعم نصاً ما فإننا نكون على يقين أن عين
المتلقي ستعطي أثناء عرضها أو في إيصالها للصورة إلى ذهن المتلقي قدرات جديدة
من شأنها أن تساهم في إعادة التأويل أو إعادة تأويل ما هي تم تأويله، وهو ما أكده جاكوبسن بقوله : إن اكثر الأنظمة الإشارية اجتماعية وعدداً
وأهمية الأنظمة المبنية على السمع والبصر . وبناء على ذلك فنحن عندما نقدم صورة انثروبولوجية لحياة مجتمع ما نضمن من خلالها
بناء تأويلات جديدة من قبل الفرد (المتلقي) الذي فشل في فهم النص الإثنوغرافي السابق الذي قدمه الباحث الميداني، أو على الأقل
فشل في التماهي مع بنية النص السردي للإثنوغرافي. من هنا يظهر التأويل بوصفه استشرافاً للمعنى وبحثاً في أسسه ومكوناته
العميقة، فتأويل المكان ليس تفكيكاً له أو تهشيماً لبنائه وإنما هو إعادة بناء من خلال إعادة النظر إليه من أجل التوصل إلى ركائزه
العميقة في العملية الإبداعية (التصوير). إنه تجاوز لأي نظرة واحدة لأن للمكان خصوصية التحقق من النظرات المتعددة، من ثمة إن الصورة تسهم
في إعادة تأويل الحقيقة المكانية والزمانية، إضافة إلى أنها تخضع مثلها مثل كل الوثائق العلمية للتحليل والتأويل من قبل الباحث
الإنثروبولوجي الذي التقطها، وهو ما أكد عليه (جون كولييه) أن الصورة الفوتوغرافية شيء ثابت يمكن تحليله وإعادة تقييمه الى
عناصر زمانية ومكانية ودلالات ورموز. ...
للصورة بعد عاطفي ووجداني:
يرى لومبار J. Lombar أن السينما الانثروبولوجية لها القدرة عبر تقطيعها الخاص للواقع على القيام باختيارات نظرية، ومن ثمة المساهمة بإنشاء أنظمة خاصة تتغلّف بتأثير وجداني، إن الصورة وسيلة مهمة للتقرب ولتبرير دور العاطفة في حقل العلاقات الاجتماعية، وليس في مجال سوسيولوجيا الأفراد فقط. في ما يتعلّق بملاحظة الوقائع الدينية وشرحها، تسمح الصورة بإنشاء أشياء معينة، كإظهار الشعور الديني، التعبير عن الاعتقاد في الدين إشارات غير مرئية، الصلاة.. إلخ. وكان کریستیان بابينو على القيام باختيارات نظرية، ومن ثمة المساهمة بإنشاء أنظمة خاصة تتغلّف بتأثير وجداني، إن الصورة وسيلة مهمة للتقرب ولتبرير دور العاطفة في حقل العلاقات الاجتماعية، وليس في مجال سوسيولوجيا الأفراد فقط. في ما يتعلّق بملاحظة الوقائع الدينية وشرحها، تسمح الصورة بإنشاء أشياء معينة، كإظهار الشعور الديني، التعبير عن الاعتقاد في الدين إشارات غير مرئية، الصلاة.. إلخ. وكان کریستیان بابينو على القيام باختيارات نظرية، ومن ثمة المساهمة بإنشاء أنظمة خاصة تتغلّف بتأثير وجداني، إن الصورة وسيلة مهمة للتقرب ولتبرير دور العاطفة في حقل العلاقات الاجتماعية، وليس في مجال سوسيولوجيا الأفراد فقط. في ما يتعلّق بملاحظة الوقائع الدينية وشرحها، تسمح الصورة بإنشاء أشياء معينة، كإظهار الشعور الديني، التعبير عن الاعتقاد في الدين إشارات غير مرئية، الصلاة.. إلخ. وكان کریستیان بابينو Christian Papino) قد تساءل عن إمكانية وجود «ممارسة فوتوغرافية بالمشاركة عند التقاطه بعض الصور استطاع أن يقدر بشكل محسوس المعنى المرتبط بهذه الأخيرة، ويختتم بالسبب : «إذا فكرنا بضبط جيد، وبأن تكون الإضاءة كافية، وبتحضير الإطار، وكان يتساءل على الدوام هل نفكر بهذا القدر بالطريقة التي تسمح بملاءمة طريقة استعمال هذه الأداة مع الميدان؟
رابعا الصورة والخطاب تصطحب الصورة الخطاب وترافقه وتتضامن معه؛
لأنها تفرض الفهم السريع إذ يفهمها أكبر قدر من المتلقين، وهي
أيضاً وسيلة إيضاح ومساعدة على الفهم، لأنها تتميز بنسق أيقوني خاص قد يجعلها تصل
الى المعنى من أقرب مرمى، فتقدم للمتلقي خدمة مهمة جداً؛ لأنها تكثف من فعل
التبليغ وبذلك تتسلط على الحساسية المتناثرة لديه وتخاطبه بطريقة مختلفة عمّا تخاطبه به اللغة، فتعمل على إيقاظ الإنسان الذي يرقد في أعماقه(1). وإذا كانت
اللغة تصف وتسرد بواسطة الكلمات والجمل بحسب ما تقتضيه خطابات اللغة، فإن الصورة تسرد بفضائها البصري وما يؤثثه من مكونات وبذلك
تكون لها دلالة متجذرة في المجتمع والثقافة التي تنتمي إليهما أو تتحدث عنهما(2)
خامسا: الصورة والبعد السايكولوجي للصورة قدرة أخرى تتمثل في تحقيق الشفاء السيكولوجي،
وفي هذا المضمار غدت (على سبيل المثال) تحليلات كلود ليفي شتراوس
(C. L. Struss) للشامان بين ظهراني هنود كونا (Cuna)
في بنما بمثابة قانون في قراءته لمثل هذا النوع من الشفاء. فحين تجد المرأة
الحامل صعوبة في وضع وليدها يتم اللجوء الى الساحر. هكذا يدخل المولد الى كوخها
ويغنّي ويرتل عند سريرها كلمات لها القدرة على الكشف عن رحمها وتوسيع مخرج الجنين . إن
المرور الى التعبير اللغوي يحرر العملية النفسية من الحصار، إنها طبعا علاقة دال بمدلول لا علاقة علة بمعلول. فما يمنح
للفعل السحري فعاليته هو الاعتقاد المشترك بين الساحر والمريضة والعشيرة بكاملها في السحر. بالطريقة نفسها تمنح الرؤية إمكانية
الانتقال إلى الفعل بطريقة مشابهة، فعملية التصوير التي تتمثل في إعطاء السديم طابعاً مرئياً ومنظماً والعلاج الكلامي talking
cure يماثله العلاج بالصورة المتمثل في تنظيم
التشابك بين
إحساسات غامضة ومتوالية حكائية مكونة من أساطير معروفة (3) . فعلى سبيل المثال من
الأكيد أن خرقة القديس (زخيرة) التي تشفي من الأمراض في المعتقدات المسيحية أو (العلك) أو (البيرغ) الأخضر الذي
يأتي به الفلاحون والأبرياء من السيد أو العلوية في العراقية هي الأخرى تشفي من المرض من وجهة النظر الشعبية). وهكذا الفعل نفسه يمكن
أن تمارسه صور الأئمة وراياتهم التي تعطي ضمانة إنقاذ المرء بمجرد النظر إليها (والحق أنها تمد الناس بشكل من
الطمأنينة النفسية والراحة النفسية التي تنبع من التفريغ السيكولوجي عن المكنونات الداخلية. كل هذا يفترض من الرائي فعل ثقة واعتقاداً
مسبقاً مسكوتاً عنه.
سادسا: الأرشفة والتوثيق:
يمكن للإنثروبولوجيا المرئية أن تسهم بإنشاء أرشيفات ضخمة للأفلام
الإثنوغرافية التسجيلية والصور الإثنوغرافية التي توثق بشكل موضوعي لأدق تفاصيل المجتمع العراقي، والمجتمعات
الفرعية، إضافة الى ذلك يمكن لهذا المركز التوثيقي تقديم استشارات علمية لدعم التفاهم المتبادل بين المجتمعات الإنسانية
(1)، وهو ما ذهبت إلى إنجازه بالفعل مع الطلبة قسم علم الاجتماع – كلية الآداب - جامعة القادسية، الى بناء نظام أرشفة فوتوغرافية
وفيديوية مهمة ودقيقة ومتنوعة لمعظم مظاهر الحياة اليومية الاجتماعية والثقافية والفولكلور الشعبي.
سابعا: يمكن أن تكون الصورة الفوتوغرافية مدخلاً لكسب ود المبحوث كما قد تعمل على زيادة وتوثيق الصلة بينه وبين الباحث
أن من شأنها أن تنشئ لدى المتلقي عواطف الدهشة أو البهجة أو المسرة والزهو أو الحزن في مواجهة بعض من الصور ... وهو ما نلاحظه في أعمال العالم فيليب كوتاك حيث اعتمد على توظيف الصورة بشكل دقيق. إضافة إلى ذلك فالبعد الصوري يمنح الإنثروبولوجي بشكل خاص مزيداً من الحميمية والالتصاق بالمكان والعمق اللذين ينمّان عن الصورة، ومن ثمة فإن الآليات الإنثروبولوجية ستعمق من التأثير الشديد للحياة عن طريق الصورة، في الوقت نفسه تعطي الصورة للباحثين الإنثروبولوجيين الجدد إحساساً حقيقياً بالأهمية أو بالتفرّد والتميز عن أقرانهم في الاختصاصات المتقاربة التي تتفاعل مع الإنثروبولوجيا خاصة في رؤيتهم للحياة التي تتجسد في الصورة
من كتابة ونقل: د. رفيق بلعيدي
المراجع:
1. محمد الجوهري وآخرون، الانثروبولوجيا الاجتماعية، 2004، ص 321. 335.
2. عبد الحميد شاكر: عصر الصورة السلبيات والايجابيات، ص 403
3. برير بشير، الصورة في الخطال الاعلامي: دراسة في سيميائية تفاعل الانساق اللسانية والايقونية. ص 05
4. عبد الله الغذامي، الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي، المركز الثقافي بيروت 2005، ط2، ص 78
5. ريجيس دوبريه: حياة الصورة وموتها، ص 124. 125.
6. جان كوبان، المسح الاثنولوجي، ص 130.
تعليقات
إرسال تعليق